Insignia identificativa de Facebook

Translate

1ـ الخروج



مايو 2003


اليوم .. أبدأ سرد يومياتى فى زيارتى الأخيرة لمدينة القاهرة، قاهرة المعز، عاصمة مصر وعاصمة العرب الغير معلنة.
وكان من المفترض أن أبدأ فى سرد هذه اليوميات والإنطباعات منذ فترة، لكنى لم أكن قد أفقت من تأثيرها بعد، وحتى الآن لازلت أمر بحالة لا أستطيع وصفها، كنتيجة لتلك الزيارة، والتى أتت بعد عدة سنوات من الغياب عنها.
الآن وقد استطعت تجميع الصورة، وربط المشاهد ببعضها البعض، وتحليل شخصى للظروف والأسباب والأحداث، فأتجرأ بكتابتها وعرضها ..
لكن قبل البداية ..
أود التأكيد على أن إنطباعاتى هى إنطباعات شخصية جداً، أى أننى لن أعترض إن إعترض أحد على أى شئ سأذكره. ولن أتعجب إن وافق ما سيأتى فيها إنطباعات أحد آخر .. كما أرجو ألا تكون مملة أو فيها تطويل زائد عن الحاجة.
تحياتى


الخروج

مثلى مثل الكثيرين .. كنت ومازلت أظن أننى أكبر عاشق لمصر وللمصريين عرفه التاريخ.
عاشق لجوها، حره وبرده، عاشق لتاريخها قديمه وحديثه، عاشق لإبتسامة شعبها فى معظم المواقف، وصبره الطويل على المحن، لمقاهيها ونواديها، لأكلها.. الفول والطعمية والكشرى ولحمة الراس وباقى التشكيلة، ومحلات العصير على كل ناصية من نواصيها، ومشهد الجوامع جنب الكنايس، ومشاهد التناقض مثل مشهد المرسيدس بجوار الكارو فى الشوارع. وبائعى البطيخ على أبواب المساجد يوم الجمعة، ودفء الأهلوالأصدقاء والجيران، والبواب والمكوجى والحلاق، وكشك السجاير وكل شئ .. كل شئ دون إستثناء.
مصر .. هى بلد بمعنى الكلمة .. حتى إسمها يدل عليها، فمصر كما نعرف، معناها فى اللغة: "بلد".
بلد لايمكن مقارنتها بغيرها من البلاد، ليس فقط لأنها بلدى التى أعشقها، وإنما أشعر دائماً بهذا المعنى، بل تأكد لى أكثر وبالدليل، بعد زيارتى لبلاد كثيرة ومختلفة، وحياتى لسنوات فى بعضِ منها .. تأكد لى أن مصر هى أعظم كل بلاد الأرض رغم كل ما يميز غيرها عنها .. ورغم كل عيوبها.
كان خروجى من مصر منذ سنوات، لأسباب شخصية عائلية، ولم أكن قبل خروجى منها بأيام معدودة، أفكر فى السفر الطويل، والغياب الكثير عنها..
بل أننى أذكر تماماً، عند قرارى بالسفر منها، بأنى قد قررت لغيابى بألا يزيد عن فترة سنة أو سنتين على الأكثر، فدائماً ما أقول عن نفسى، وعن كل المصريين، بأننا كالسمك، يموت خارج الماء، ومصر هى الماء بالنسبة لنا.
لحظة وصولى مطار القاهرة الدولى فى النصف الأول من التسعينات، وتحديداً إلى المطار الأول (القديم)، أذكر أننى نظرت كثيراً للمسلة الفرعونية التى تقف عند مدخل المطار، وتأملتها للحظات، غبت فيهم عن الوعى لثوانى .. لا أدرى المبرر لذلك ولا أهميته لذكره الآن، لكنه مشهد لا يفارقنى أبداً رغم مرور السنين.
لم تكن تلك المرة هى المرة الأولى التى أسافر فيها. لم تكن عندى رهبة ركوب الطائرة للمرة الأولى، ولا كان عندى أو معى أى شئ أحمله يجعلنى أرتبك، لكنى كنت أرتجف يومها كما لم أرتجف فى حياتى.
كان يوم جمعة، وكان وقت صلاة الجمعة قد حان وأنا فى صالة المسافرين، فوجدت بعض الناس يصلون جماعة .. بدون خطبة .. أمام كافيتريا الصالة، فانضممت لهم .. وكان مشهداً ملفتاً لنظر الأجانب والعرب على حد سواء، فالتقطوا لنا الصور، كما إلتقطوها للأحذية التى وضعناها أمامنا بشكل جماعي كالمعتاد .. فقد كان شيئاً غريباً عليهم بالطبع، ففى أى مكان آخر، لا يمكن ترك المتعلقات الشخصية والأحذية بهذا الشكل وبدون حراسة.
جلست بجوار النافذة، محملقاً فى منظر المطار، يليه منظر القاهرة ككل، ثم حقول الدلتا الخضراء والشريط الفضى المتلألئ الذى يقسم البلد إلى شطرين، وهو بالطبع نهر النيل كما يبدو من أعلى فى الصباح .. ولم أقوى على دموعى التى تساقطت بشدة، وكأنى طفل صغير ضربه والده بقسوة، أو كشخص فقد أحد المقربين إليه.
ووصلنا إلى البحر، وخرجنا من المياه الإقليمية المصرية .. وإختفى منظر مصر.
فى الطائرة وأثناء الرحلة التى دامت بضعة ساعات، مر شريط حياتى كله أمام عينى، ولم أفهم السبب لذلك وقتها، كغيره من الأشياء التى لم ولا أفهمها بعد، لكنى اليوم أفسره بأنه نوع من الأحاسيس، مثل الحاسة السادسة والخامسة والرابعة، إحساس يكون بداخلنا، ينبئنا عما سيحدث لنا مستقبلاً دون أن يفصح تماماً عن نفسه، فبدلاً من أن يُرينا صورة المستقبل الذى ينتظرنا، يُرينا صورة الماضى، وكأنها مراجعة نهائية قبل التغيير القادم، لنحتفظ بتلك الصور التى يأتينا بها، فى ألبوم عقولنا طوال فترة غيابنا.
تذكرت كل شئ وقتها، بكل التفاصيل الدقيقة لكل حدث، وكنت أبتسم وأكشر وأظهر تعبيرات جامدة وكل أنواع الإنفعالات أثناء مرور هذا الشريط السينيمائى فى داخل عقلى.
من ضمن ما تذكرت، وأولهم، كانا وجها والدي ووالدتي رحمهما الله، أثناء وداعهما لي، والذى كان وداعهما الأخير دون أن أعلم.
كما تذكرت، زملائى وأصدقائى فى الجامعة، وكانوا مجموعة وخلطة نادرة، فكان منهم الفلسطينيين والسودانيين والسوريين إضافة للمصريين بطبيعة الحال، والملفت لنظرى الآن، أننا لم نتعامل فيما بيننا أبداً من خلال جنسياتنا، بل فقط من خلال أسمائنا وشخصياتنا. كما تذكرت ولا أدرى السبب أيضاً، إنتخابات إتحاد الطلبة، والجو السياسى الحقيقى الذى كنا نعيشه وقتها، وكم الوعي المنتشر بيننا على إختلاف أفكارنا وإتجهاتنا، شباب وشابات على حد سواء، وكيف كانت المظاهرات تنظم وكيف كانت تخرج للشوارع رغم الحظر ورغم مكتب الأمن فى كل كلية. تذكرت أحلامنا وطموحاتنا الشخصية والعامة. نوادرنا وطرائفنا، ومشاكلنا التى أضحك منها الآن.
تذكرت أيضاً إزدحام الشوارع فى وسط المدينة بسبب أعمال مترو الأنفاق، وكيف كنت أعانى ويعانى الجميع بسبب سوء تخطيط وإدارة أعمال التنفيذ.
إضافة لمشكلة التاكسيات، وركوب زبونين أو ثلاثة لنفس التاكسى فى وقت واحد، وبجاحة السائق فى طلبه من أحد الزبائن النزول قبل أن يصل لمكانه، كى يكمل هو مع الزبون الآخر لمكان آخر. والأوتوبيسات التى تدلى منها الركاب من أبوابها،وبعضهم من الشبابيك. والسيارات التى لا تحترم أى إشارة مرور .. والألعن .. وجود إشارات لا تعمل أصلاً.
تذكرت إنفعالي على أحد عساكر المرور يوماً لإعطائى مخالفة عن غير حق، ويتضح بعدها أنها كانت وسيلته لطلب رشوة ليلغيها فيما بعد، ورفضي لكلا البديلين وشجاري معه لذلك. وعودتى للمنزل بعدها، لأفكر فى وضعه المادى الصعب، وأن تلك هى وسيلته للوحيدة للحصول على لقمة العيش.
تذكرت هضبة الأهرامات، وولعي بالآثار والتاريخ بصفة عامة، وكيف كنت أجد لنفسى مخرجاً من مشاكلى أحياناً، بالصعود أربع أو خمس درجات على الهرم الأصغر من الناحية الغربية وقت الغروب متأملاً فى هذا المنظر المفتوح اللانهائى والمحدود فى وقت واحد بشكل يصعب فهمه.. لكنه مريح.
ونفس المخرج الذى كنت أجده لنفسى، لكن بجلوسى على نهر النيل فى أماكن متفرقة منه هذه المرة، حيث كان النيل كله ملكي .. كما كان ملكاً لكل الناس.
كانت ذكريات كثيرة جداً، توقف الزمن عندها بالنسبة لى، أى .. أن صورة مصر والقاهرة تحديداً، إستقرت عند تلك المشاهد، وظلت عالقة فى ذهني طوال فترة سفرى لسنوات .. كنت أعلم بأن هناك تغييرات تحدث، كنت متأكداً من هذه التغييرات وحتمية حدوثها .. لكن عقلي لم يشأ أن يزيح تلك الصور والمشاهد التى توقف عندها آخر مرة .... فكانت الصدمة كبيرة، بحجم السعادة البالغة .. لحظة العودة ..
فرياح التغيير قد أتت .. وعصفت بالكثير.
يتبع ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق