Insignia identificativa de Facebook

Translate

روح يابنى، ربنا يسهلك


سبتمبر 2002


تائه فى أحد أحياء القاهرة الراقية، يبحث عن عنوان ولا يجده.
فبعد أن دار أكثر من مرة حول نفس المكان دون فائدة، وبعد أن سأل أكثر من شخص من المارة، علهم يفيدونه، وكلهم دون إستثناء فى الحقيقة؛ كانوا من الشهامة والكرم، بحيث أفتى كل منهم بما لديه، وأدلى كل منهم بدلوه، الذى تناقض تماماً مع دلو وفتوى سابقيه .. كانت النتيجة هى تلك الحالة من توهان صاحبنا قائد السيارة. فما كان منه فى آخر المطاف إلا أن تقدم بسيارته بمنتهى الشجاعة والإقدام .. والتفاؤل .. صوب أحد رجال المرور الواقفين فى ذلك الميدان ..

والحق، أنه رآه منذ البداية، لكنه لم يفكر مطلقاً فى سؤاله عن العنوان المطلوب، لعلمه من تجاربه السابقة، أن هؤلاء "العساكر"، ليسوا سوى عينة منتقاة بعناية بواسطة أجهزة الأمن، من وسط الحقول والأطراف النائية عن أى عمران، لا يقرأون ولا يكتبون، لا يرون ولا يسمعون ولا يتكلمون .. لا يفهمون .. فقط ينفذون .. أوامر الباشا المجند أمين الشرطة ومن فوقه من رُتب أعلى. كان يعلم تمام العلم مسبقاً، أن هؤلاء المساكين المنقوحين فى صهد الشمس أو فى صقيع البرد طوال اليوم وطوال الليل، لا يعلمون ولا حتى يستوعبون، لماذا هم فى هذا المكان، ولا ما هو دورهم ووظيفتهم .. أمروهم بالوقوف فوقفوا، ولن يستريحوا حتى تأتى الشاحنة التى أتت بهم لتستبدلهم بغيرهم ويركبوها هم ليعودوا إلى عنابرهم وينامون .. بالأمر ..

لكن المارة أيئسوه، وهو يحتاج الوصول إلى عنوانه المفقود، ولا توجد فى البلد كلها خريطة تفصيلية دقيقة للشوارع ولا للأحياء يمكنه الإعتماد عليها وتوفير وقته ورحمته من سؤال الناس وفتاواهم الفهلوية .. إذا لا يوجد أمامه سوى "العسكور" المسكين ليسأله، عل وعسى، ويوضع سره فى أضعف خلقه كما يقول المثل الشعبى ..

تقدم بسيارته نحوه، حيث كان متخشباً كخيال المآته على إحدى نواصى الميدان .. أوقف سيارته على جانب الرصيف، ومن داخلها مبتسماً ومتأدباً، ألقى السلام على العسكور أولاً .. فلا يرد عليه السلام!! يسلم عليه مرة أخرى، فيرد العسكرى ببرود غير مألوف من تلك العينة من المجندين المُستَخدَمين فى شرطة المرور: وعليكم السلام، شيل العربية سيادتك منها، كده مخالفة.

ينظر له والإبتسامة لازالت على وجهه بعد أن تجمدت عليه، ويقول له: ماشى، حأشيلها حالاً، بس لو سمحت العنوان ده فين؟
يُظهِر العسكرى ورقة "مكرمشة" و"عرقانة" كانت فى يده، ويبدأ فى تسجيل رقم السيارة ..

إنت بتعمل إيه؟؟؟؟
سأله بإستغراب وبغضب فى آن واحد .. فهو تصرف غير متوقع على الإطلاق، وغير منطقى.
فأجابه بنفس البرود: مخالفة يا باشا .. العربية واقفة فى الممنوع.
تسمر صاحبنا فى مكانه لا يعرف ماذا يفعل .. لم تخرج من فمه سوى كلمة تعجب واحدة لما سمعه: نعـــــــــــــــم !!
اقترب العسكور منه، وابتسم لأول مرة، وقاله: ما تخافش يا باشا، هات إنت بس حق الشاى وأنا حأشيلهالك.

فما كان منه إلا أن رمى الشرطى (العسكور) بنظرة إرتعدت لها فرائسه، ثم خرج مندفعاً من سيارته، ليأخذ بياقة بذته العسكرية البيضاء، التى يسبح بجسده النحيل داخلها، وتبدو وكأنها بذة أخوه الأكبر، أعارها له ليؤدى بها ساعات النبطشية. دفعه أمامه وهو مازال يرميه بنفس النظرة، حتى لصقه فى حائط أحدى العمارات، والعسكور فى حالة من الذهول، لا يدرى ما جرمه، ولا ماذا إرتكب، إنها طبيعة عمله والعُرف والعادة التى تعود عليهما منذ أخذوه من قريته ليقف فى ميادين وشوارع القاهرة، وهو على هذه الحالة التى يظن أنه سيبقى عليها حتى يتم السنوات الثلاثة المحكوم عليه بهم فى هذه الخدمة.

نظر إليه، وشاهد نظرة الخوف فى عينيه، إختلط عليه الأمر، هل يصفعه؟ هل يلكمه بقبضته التى كانت قد تكورت وعلى أهبة الإستعداد؟ هل يسبه؟ هل وهل ..؟

لكنه، فى النهاية ترك ياقة بذته.. وتغيرت نظرته، تحولت إلى نظرة شفقة، إختلط عليه الأمر؛ أيهما الضحية وأيهما الجانى؟ تركه .. فقط قال جملة واحدة:
"روح يابنى، ربنا يسهلك".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق