Insignia identificativa de Facebook

Translate

‏إظهار الرسائل ذات التسميات رياح التغيير. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات رياح التغيير. إظهار كافة الرسائل

5ـ الخبطة الرابعة


سبتمبر 2003


الخبطة الرابعة

بعد الأوتوبيسات بأنواعها، وإستكمالاً لوسائل الإتصالات والمواصلات .. ما لفت نظرى جداً هو إنتشار الأطباق فوق أسطح البيوت.

قبل خروجى من مصر، كانت تلك الأطباق تكاد تكون نادرة الوجود، لا نجدها إلا على سطح عمارة واحدة من كل شارع تقريباً، وكنا نعرف فوراً بمجرد رؤيتها، أن بهذه العمارة يسكن إما أحد الأثرياء، وإما أحد أعضاء السلك الدبلوماسى لبلد ما.
الآن وجدت أنها فوق كل مبنى، وتطل من كثير من البلكونات، حتى فى المناطق المسماة بالعشوائية، لدرجة أنها لكثرة عددها المبالغ فيه، ليست أطباق الساتلايت التى أعرفها، بل هى نوع جديد من الهوائيات (الإيريال) يستخدم حالياً فى مصر. حتى دخلت البيوت، وتأكدت من أنها فعلاً أطباق الفضائيات. وعرفت أن كل مصر قد صارت من الأثرياء!
عند وصولى للقاهرة، كان قصف العراق قد بدأ، فكان حديث الساعة الوحيد فى كل مكان، وكانت قناة الجزيرة، هى القناة الوحيدة التى أراها فى كل منزل أدخله أو فى أى مقهى أجلس فيه. وأكد لى هذا ما تعودت على قراءته فى المنتديات المصرية الإنترنتية، عن فشل الاعلام المصرى الذريع، وعزوف الناس عنه بشكل يكاد يكون كلى .. ويا حسرتاه على الإعلام الرائد.
لأتأكد من هذا بنفسى، كنت أقلب فى القنوات كل ليلة قبل نومى، أولاً لأتابع آخر آخبار العراق، وثانياً لألاحظ الفروق بين كل قناة وأخرى، وأسفت للمستوى الهابط تماماً للتليفزيون المصرى بقنواته المختلفة، والتى بدت لى، وكأنها قنوات لم يطلها التطوير الفنى ولا التقنى على الإطلاق منذ تركتها آخر مرة. هذا، غير نوعية البرامج التى كانت تُعرض، وكأن التليفزيون المصرى، وبخاصة قنواته المحلية، يعيشون فى عالم آخر غير عالمنا، ولا يدرون بما كان يجرى فى منطقتنا.
وليس التليفزيون المصرى فقط الذى أصابنى بحالة من القرف، بل عدد لا حصر له من التليفزيونات العربية أيضاً، والتى تخصصت فى الغناء والفيديو كليب، وأخرى تخصصت فى برامج المنوعات والمناظرات غريبة الموضوعات.
والجامع المشترك لكل هذه الزبالة الإعلامية، كانت أغنية "أحبك أه مش عارف إيه لأ" للمغنية الفذة معبودة الجماهير اللى لابسة من غير هدوم.
المضحك فى موضوع الأطباق، إنى رأيت بعض الأصدقاء، الذين لم يتطوروا بعد، ولم يشتروا طبق .. "لكن الجيش بيقول إتصرف" .. طيب يعملوا إيـــــه؟؟ بسيطة: يضبطوا الإيريال بتاعهم بطريقة معينة، ويمدوا سلك مش عارف منين لفين، فيحصلوا على إرسال الطبق بتاع الجيران ..بس المشكلة، إنهم مرتبطين بذوق الجار! يعنى لو الجار عاوز يشوف قناة الهند .. يبقى هند، ولو عاوز يشوف قناة منغوليا .. يبقى منغوليا!
نصحت صديق منهم أن يساهم مع جاره، أو يعزمه على الغدا مرة فى الأسبوع، علشان يسيبه يشوف قناة الجزيرة .. بس مارضيش .. قال كده حيطمع فيا .. وجهة نظر برضو!
جدير بالذكر؛ إن أنا وحيث أقيم فى الخارج، ليس عندى ولا عند الغالبية العظمى من الناس، طبق ساتلايت، ولا أفكر فى شرائه، فما يعرضه التليفزيون الرسمى والقنوات الخاصة المجانية وعددهم فى الإجمال 6 قنوات، تغطى الحاجة وتزيد بكثير، ولم ولن أفهم معنى أن يهتم المصريون بإقتناء 150 قناة على الأقل وتصل إلى 600 قناة فى بعض الحالات كما رأيت، والغريب أن كلهم تقريباً يعرضون نفس الشئ .. من أين لكم بكل هذا الوقت لمشاهدة تلك القنوات جميعها؟ وماذا بها من محتوى تحرصون على متابعته؟
سؤالين سألتهم ولم يجيبنى أحد.

من وسائل الاتصالات أيضاً .. المحمول .. وأه من المحمول وجنون المحمول وجنون المصريين بالمحمول.
صحيح أن ظاهرة المحمول أو النقال منتشرة فى العالم كله، وصحيح أنه يتحول تدريجياً وبشكل إطرادى ليكون هو التليفون الوحيد المستعمل، حيث يُتوقع له أن يلغى تماماً التليفون العادى ويحل محله بعد وقت قصير، ... لكن .. أن أقابل ناس، يغيرون المحمول كل 3 شهور، ليحصلوا على الموديل الأحدث، ويخسرون فى ذلك مبلغاً كبيراً، فهذا ما لم أفهمه!
قابلت شخصية من هذا النوع، كان معها أحدث وأغلى موديل نوكيا، حتى وصلت للقاهرة، وكانت قد إشترته حسب ما ذكرت لى من 3 شهور فقط بمبلغ 1800 جنيه (بدون تعليق) .. وبعد وصولى مباشرةً، كانت تبحث عن مشترى له بأى ثمن، كى تستطيع شراء الموديل الأحدث الذى نزل بالكاميرا، وثمنه يفوق ال 2000 جنيه (بدون تعليق أيضاً) .. وفعلاً، وفى ظرف أسبوع، كانت قد وجدت المشترى، بخسارة 500 جنيه، واشترت أبو كاميرا (وأنا تنحت)!
المصيبة، إن هذه الشخصية ليست من الأثرياء الذين لا يدرون ماذا يفعلون بما لديهم من ثروة أتتهم من السماء، لا والله .. هى شخصية عادية جداً، تعمل لكسب رزقها، جائز أنها تكسب شهرياً مبلغاً مرتفعاً نسبياً، لكنها ليست من حاملات كروت الكريديت، وليس لها أرصدة فى البنك، إعتمادها كله على مرتبها الشهرى، وهو ما حيرنى وجعلنى أفقد كل منطق قادر على الفهم.
وما فهمته منها أيضاً، أنها ليست الوحيدة التى تفعل هذا، بل أن كل من حولها على نفس المنوال (عادى يعنى).
وعجيب يا شعبى العظيم.
شعرت ساعتها، أننى أنا اللى متأخر واللى عايش فى دولة متخلفة من العالم الثالث.
فوالله .. لم أغير محمولى من سنة 2000 .. ولم أشتريه يومها، لولا أن القديم كان قد عطل بسبب وقوعه على الأرض.
ولا أعرف حولى من الخواجات الذين أعيش وسطهم، من يغير محموله لمجرد التغيير أو التحديث، وإنما فقط .. إن كانت هناك ضرورة للتغيير.
الرحمة حلوة يا ناس .. فكروا شوية فى الأولويات قبل ما تبعزقوا.
وعموماً .. أعلنها هنا على الملأ وبصوت عالى:
اللى معاه فلوس وتعباه ... أنا جاهز أريحه منها .. شاوروا أنتم بس وأنا فريرة.

أما الكومبيورر .. ومش ناقصة تاء ومش غلطة مطبعية، لأ .. هى كده .. "كومبيورر" من غير تاء .. فده بقى قصة لوحده.
إيه الحلاوة دى .. ماشاء الله على التقدم، كل الشباب ماشاء الله خبير فى الكومبيورر.
بس خبرة ... تودى فى داهية
أول هام .. كله ماشى بالبرامج المضروبة، ماشفتش واحد يوحد الله عنده برنامج واحد يوحد الله أصلى بتاع بلده.
كله مضروب وببلاش ..
"
سبحان الله .. لما أنتم فالحين أوى فى البعزقة فى المحمول، مش هاين عليكم تشتروا برنامج أصلى وتشغلوا أجهزتكم على نضيف؟؟؟ طيب بالله عليكم .. أيهما أولى؟"
ده السؤال اللى كنت بأسأله للناس إياها، مش ليكم انتم يعنى
وكل اللى شفتهم تقريباً .. قاسمين أجهزتهم .. يعنى عاملين بارتيشن، وحاطين نظامين تشغيل على الأقل، الإكس بى، والـ98 .. مش عارف ليه. إيه الحكمة؟ الله أعلم .. ماحدش عرف يدينى إجابة مقنعة، لكن هو كده.
وكل اللى شفتهم .. بإستثناء واحد أجهزتهم مليانة برامج ألعاب وأغانى وأفلام، وإستخدامهم للنت .. من أجل التشات فقط
يعنى فى مقولة أخرى .. إستخدام المصريين للحاسوب ولشبكة المعلومات، ينحصر فى كلمة "الإستهلاك" تماماً مثل كل حاجة تانية، مستهلكين فقط لا غير، وسلمولى على التنمية والتقدم.

يتبع ..

4ـ الخبطة الثالثة



أغسطس 2003

الخبطة الثالثة

عندما تكون فى القاهرة، تشم رائحة لا تشمها فى مكان آخر
.
ليست بالضرورة رائحة ورود ولا يا سمين، وليست برائحة منفرة كذلك، إنما هى رائحة خاصة، شذا مميز، لايتشابه. خليط من رائحة الصحراء التى تحيط بها مع رائحة النيل مع رائحة الدلتا الخضراء القريبة، مع رائحة المأكولات المصرية المميزة، مع رائحة عوادم السيارات، وحتى مع رائحة الناس أنفسهم، وكثيرون منهم يتعطرون بالمسك وآخرون بعطور فرنسية وغيرهم ليس عليهم إلا عرق كدهم. كوكتيل غريب من الروائح وبنسب مئوية خاصة جداً بمدينة القاهرة.
عندما تكون فى القاهرة، تسمع أصواتاً لا تسمعها فى مكان آخر.
تسمع أصوات محركات السيارات، مع أصوات آلات التنبيه، مع أصوات شرائط الكاسيت التى تنبعث من كل السيارات دون إستثناء، بأغانى أو بقرآن. تسمع آذان الصلاة منبعثاً فى الهواء من كل إتجاه وإلى كل إتجاه. تسمع منادو سيارات الميكروباس ينادون على الركاب، كل بأسلوبه، وجميعهم بأصواتهم الجهورية المميزة. تسمع برامج التليفزيون والراديو خارجة من المقاهى المنتشرة على كل ناصية شارع. تسمع ضجيج حركة الناس بصفة عامة .. تمتزج كل تلك الأصوات فى آن واحد، بشكل تآلفى هارمونى معقد بالغ الصنعة، لا يقدر أى مؤلف موسيقى مهما بلغت عبقريته، التعبير عنه بكل آلات الأوركسترا الفيلهارمونية.
بين حاستى الشم والسمع إضافة للبصر، كنت أتجول يومياً مستمتعاً بكل شئ، وإن تضايقت من بعضهم .. لكن الكمال مستحيل.
فى اليوم التالى لوصولى، وبعد عمل عدة إتصالات تليفونية لترتيب زياراتى، خرجت فى أول جولة .. وكان الجو، هو أول مشاكلى. فقبل سفرى مباشرة، سألت بعد الأصدقاء عن الجو فى تلك الفترة، فأكدوا لى أنه بين 20 و25 درجة مئوية، وهذه الدرجة حيث أقيم حالياً .. تعتبر حر، وتعودت فيها على لبس الملابس الخفيفة جداً، وعليه؛ لم أحضر أى ملابس ثقيلة .. لكن المفاجأة كانت أنها حوالى 14 درجة وفى المساء تقل أكثر، كان الناس مازالوا يرتدون الملابس الثقيلة، بينما أنا أسير بقميص خفيف جداً، وهو ما جعلنى ألعن أصدقائى إياهم سراً وعلانية، خصوصاً بعد نزلة البرد التى أصابتنى فى اليوم الأول .. وأدركت حينها اننا كمصريين، لا نهتم بالجو وبدرجات الحرارة ولا بالنشرات الجوية، وهو ما يجعل الغالبية يفتون برقم الدرجة .. وزى ما تيجى!
والحقيقة .. أنا شخصياً لا أهتم بتلك النشرات، لكن وقتها كنت بحاجة لمعرفتها.
فى الشارع كنت أسير بطيئاً متمهلاً على غير العادة، لألاحظ الحى الذى نشأت فيه، ما تبقى منه وما طرأ عليه من تغييرات .. بشكل عام لم يتغير كثيراً، لكن هناك محلات قد تغيرت أسمائها ونشاطاتها، ووجدت شلل جديدة من أبناء الحى، يقفون فى نفس الأماكن التى كنا نقف فيها وقتما كنا فى سنهم، لم اعرف أى منهم .. وشعرت لحظتها بتأثير غيابى وغربتى.
ذهبت لبعض الدكاكين والمحلات التى كنت دائماً أتردد عليها، من البقال إلى المكوجى إلى مطعم الفول إلى العجلاتى إلى الميكانيكى، البعض منهم قد ماتوا وحل محلهم أبنائهم أو إخوتهم، والبعض الآخر قد شاب شعره وبانت عليه آثار السنين، وكانت آخر صورة لهم فى ذاكرتى مختلفة كل الإختلاف.
عرفنى الجميع، وتبادلنا التحيات والسلامات وقص الحكايات والذكريات، وإغرورقت عيناى وأعين البعض منهم بالدموع ونحن نتذكر بعض من انتقلوا لرحمة الله فى تلك الفترة، ومنهم والداي الذان تذكرهما الجميع بالخير وترحموا عليهما، وكأنهم كانوا يعزونى فيهما من جديد.
كى لا أطيل فى حالة الشجن تلك، تركتهم مسرعاً بإبتسامة خاطفة، وأوقفت أول تاكسى، وطلبت منه الإنطلاق إلى أى مكان.
تماماً كما يحدث فى أفلام السينما، نظر لى السائق، وقال:
ـ أى مكان فين يعنى يا باشا؟ ..
قلت له: ماشى .. ودينى ميدان الجيزة.
أما عن هذا التاكسى .. فسأحدث ولا حرج !
كان التاكسى فيات R هذا الموديل الذى انقرض حتى من كتالوجات تاريخ المصنع! ولو عرفت شركة فيات الإيطالية، بوجوده حتى الآن فى شوارع القاهرة، أظنها ستشتريه من السائق بأى ثمن يحدده هو لعرض السيارة فى متحفها أو لبيعه فى مزاد علنى لهواة إقتناء التحف.
هذا ما ظننته فى البداية، كنت أظن أنها السيارة الوحيدة من هذا الطراز فى مصر، لكن أثناء الطريق، شاهدت منها العشرات، وشاهدت كذلك، موديلات وماركات أقدم وأكثر ندرة، وبأعداد كبيرة .. وعمار يا مصر .. مفيش فيها حاجة بتموت ولا بتنتهى!
قبل ركوبى التاكسى، نظرت للباب باحثاً عن المقبض "الأوكرة" لفتح الباب، ولم أجدها .. كان مكانها (خُرم) ومد السائق يده مشكوراً ليفتح لى الباب من الداخل!
وبحكم طول قامتى .. فأضطر دائماً إلى إرجاع المقعد للخلف لأقصى درجة، فطلبت من السائق بأدب أن يرجعه لى كى أتمكن من الركوب، فقال لى فارغاً فاهه وناظراً لى وكأنى أحدثه باللغة اليابانية: هه !
فأعدت عليه الطلب، فنظر للأمام وقال لى:ـ ما تركب يا أستاذ، خليها على الله.
وبدون تفكير سارعت بالرد عليه، لأنى فعلاً لم أفهم: ـ هى مين؟!!؟
فرأيته وقد بدأت ملامحه تتغير والغضب بدأ يبدو على وجهه. فعافرت علشان أعرف أحشر نفسى وأقعد ورُكبتى تكاد تصل إلى ذقنى أثناء الجلوس.
وسألته: ـ طيب ممكن تقف عشان حأنزل أقعد ورا أحسن؟
فرد: ـ ليه على إيه؟ إنت مش طويل أوى يعنى، ده أنا بيركب معايا ناس طولك مرتين، وبعدين ورا مفيش كرسى.
فنظرت للخلف، لأكتشف فعلاً ان المقعد الخلفى غير موجود .. كان الموجود عبارة عن الشاسيه وعليه طبق غسيل بلاستيك كبير وفيه عدة ميكانيكى، وبجانبه فردة كاوتش مقطوعة.
رغم صعوبة الجلوس، حاولت البحث عن حزام الأمان، ولم أعثر عليه، فسألته عنه .. فقال لى: ـ تحت منك يا باشا .. وتعجبت .. إيه اللى جابه تحتى؟ إزاى؟ ..المهم حاولت أطلعه، وأخيراً نجحت، لكنى لم أنجح فى ربطه، فمكان الربط كان مكسور، فقال لى:
ـ ماتقلقش إنت خلاص حتنزل، بس إمسكه كده بإيدك لو شفت حد منهم.
وكان حزامه هو أيضاً غير موضوع فى مكانه، وإنما يضعه فقط فوق القميص .. زينه يعنى .. وكأن الحزام غرضه (لو شفت حد منهم!)
.. بس ما علينا
وصلنا ميدان الجيزة، بعدما كدت أختنق من الدخان المنبعث من الموتور أو من الشكمان .. لا أعلم .. إلى داخل السيارة نفسها، وبعد أن كادت أذنى تصم من شريط الكاسيت الذى كنت أستمع إليه إجبارياً، ولا أعرف إن كان مغنى أو مغنية، أو إن كان عربى أو أجنبى، فقد كان الصوت "بايظ وبيوش" ويقف كل دقيقة، فيخبط عليه السائق بظهر يده فيعود لإطرابنا مرة أخرى.
ليس غريباً على أحد أن أقول أن عداد التاكسى كان متوقفاً لا يعمل .. فلن أقولها.
فى الماضى كنت أدفع لنفس المشوار حوالى جنيه وربع أو جنيه ونص .. مش فاكر بالضبط.
فسألته لعلمى بأن الأسعار قد تغيرت بالتأكيد: ـ عاوز كام؟
فتأتينى منه الإجابة التى حُرِمت منها لسنوات، وكنت أظننى قد نجوت من سماعها إلى الأبد: ـ هات اللى تجيبه.
مشكلة فعلاً .. طيب أنا اعرف منين يا جدعان؟؟!!
فعملت حيلة ... تصنعت بأنى أبحث فى محفظتى .. ثم تأففت من عدم وجود ما أريد دفعه "فكة" .. فأعطيته 10 جنيه، وسألته:
ـ معاك فكة؟ أنا مامعاييش.
فأجده أكثر لؤماً .. رد لى العشرة جنيه كلها .. لكن جنيهات!
تعمل إيه يا أبو العريف؟؟ .. تعمل إيه يا أبو العريف؟؟ .. رحت مديله 5 وغمضت عينى عشان ما أشوفش وهو بيضرب .. وما ضربش الحمد لله .. أخدهم وقال لى: ـ نهارك فل ..... ومشى الحمد لله.
أضع المحفظة فى جيبى، وأرتب ملابسى "اللى اتعجنوا فى التاكسى"، فأكتشف أن حزام الأمان، ترك شريط أسود على قميصى الأبيض من أول كتفى الأيسر إلى عظمة وسطى الأيمن. أثر من شحم أو قذارة من أى نوع مش مشكلة .. أنا نهارى فل خلاص! وأكتشف أيضاً أن ركبة البنطلون قد إنقطعت (ضبة ومفتاح) من أثر دخولى أو خروجى للتاكسى وإحتكاكهم بالباب الذى لم يكن مبطناً من الداخل، فقط كان يظهر منه الصاج .. بس عادى .. نهارى فل!

ميدان الجيزة .. واحد من أهم ميادين مصر كلها، وكان فى السابق يعرف باسم ميدان الساعة، وله تاريخ طويل، وحوله قَطَن ويقطُن نخبة من ألمع أسماء مصر فى العصر الحديث والمعاصر من مفكرين وأدباء ومبدعين فى شتى المجالات .. ويربط هضبة الأهرامات وطريق الأسكندرية بجامعة القاهرة وحديقة الحيوان وبقصر المنيل وبمقياس النيل وطريق حلوان وبه محطة سكة حديد خط الصعيد وبريد الجيزة وعدد لا حصر له من المتاجر الكبيرة والمتوسطة والصغيرة.
لكن أيضاً ... به موقف عربات الميكروباص!
وما أدراكم ما هى عربات الميكروباص.

لتنفض الحكومة يدها عن مشكلة البطالة، سمحت لكل من ليس له عمل، بقيادة ميكروباص. ومنعت فى وقت سابق مرور الكارو الذى تجره الحيوانات فى الشوارع، فتحول العربجية إلى سائقى ميكروباص. ولم تُعاون الخارجين من السجون لإيجاد مهنة، فتركتهم يقودون سيارات الميكروباص ... خليط غريب من نوعيات معينة من الشعب، إجتمعوا جميعاً فى مهنة واحدة، وهى قيادة سيارات الميكروباص، والتى صارت حسبما لاحظت، وسيلة المواصلات الأساسية فى القاهرة الكبرى.
تلك الميكروباصات، لا تسير فى حارات محددة، ولا تقف فى محطات محددة ولا لها حتى تسعيرة محددة .. لاهى تاكسى ولا هى أوتوبيس .. هى فزورة .. شئ غريب غير مفهوم .. لكنه عند أهل القاهرة الكبرى .. كالماء والهواء .. ظهر فجأة بعد الانفتاح الساداتى المُسمى بالاقتصادى، وانتشر كالفيروس فى كل شوارع مصر، وأصبحت السيطرة عليه أقرب إلى الإستحالة.
نزلت فى ميدان الجيزة .. لأجد نفسى محاصر من كل إتجاه بتلك الميكروباصات، كانوا كمستعمرة من النمل أجزم أنهم كانوا أكثر من الناس.
عودة لحاسة السمع ..... إختلطت أصوات المناديين لتلك الميكروباصات بشكل نشاذ يرثى له ويقزز كل من لم يألفه، أحدهم يقول: مؤسسة مؤسسة مؤسسة .. والثانى رمسيس رمسيس .. والثالث إمبابة إمبابة .. والرابع فيصل فيصل فيصل.. وتعاون تعاون .. وكيت كات كيت كات .. وفيوم فيوم .. إلخ
وقفت أتابع وأشاهد وألاحظ، ورثيت لهم ولنفسى.
بعد فترة من الفرجة .. قررت عبور الشارع للتمشية ولمزيد من الفرجة. وما أن عبرته "بصعوبة" .. حتى رأيت تلك السيارات تهدى السير كلما إقتربت منى .. ليسألنى المنادى الذى يقف متعلقاً على سلالمها وجسمه يكاد يكون طائراً فى الهواء:
ـ رمسيس رمسيس، رمسيس يا باشا؟
وأهز رأسى بلا .. فينطلق بسرعة .. ويأتى التالى له والتالى والتالى وهكذا .. إلى أن أتانى أحدهم .. وكان ينادى قائلاً:
ـ مؤسسة مؤسسة ..
فأهز رأسى بلا أيضاً .. فيقف هو تماماً .. ولا أعيره إهتماماً، فهو ليس موضوعى .. لكنه يبادرنى قائلاً ومصراً:
ـ يالله مؤسسة .. تعال فيه مكان ..
وأقول له مستغرباً إصراره: ـ مش رايح المؤسسة!
فيرد: ـ ليه كده بس؟ يا عم ما فيه مكان أهه، والله فيه مكان .. تعال.
فوقفت دون حراك .. أحاول إدراك إن كانت دعابة أو سخافة.
فينظر هو للسائق ويقول له :
ـ بس .. أهو حييجى أهه .. مش قلتلك؟ ده راجل ذوق.
وأستمر فى تَسَمُرى فى المكان غير مُصدق .. ويظل هو يتحدث بنفس الطريقة وأنا أكتفى بالنظر إليه دون تعليق وحواره قد حُفِر فى ذاكرتى .. ولا يتحرك إلا بعدما ثارت آلات تنبيه جيوش الميكروباصات خلفه .. تريده أن يتحرك .. فقد كان بالمناسبة؛ يقف فى وسط شارع الجامعة أمام مدخل كلية الزراعة تقريباً معطلاً بذلك المرور كليةً.
(بالمناسبة .. فين المؤسسة؟؟ عمرى ما سمعت عنها إلا منه!! (
لم أكن ليفوتنى قبل نهاية زيارتى للقاهرة، أن أركب الميكروباص مرتين ثلاثة، كى أشعر بالإنتماء فى أوج معانيه .. وفعلاً شعرت براحة نفسية وبهدوء بال وبإنتعاش غريب وأنا بداخله، وفهمت سبب إصرار المصريين على وسيلة النقل هذه ... خصوصاً مع شرائط الكاسيت التى يضعها السائقين لتصحبهم أثناء الرحلات، وهى إما شرائط للغناء الذى يدعون بالخطأ أنه شعبى .. أو شرائط لهؤلاء الشيوخ الذين ظهروا حديثاً وليس فى كلامهم محتوى ولا يعجب سوى طبقة معينة من الناس .. حاجة هبــــــــــــــــــــاب.

وكى لا تفوتنى أى وسيلة مواصلات قاهرية .. فقد أخذت الأوتوبيس أيضاً ... والأوتوبيس الحكومى 4 أنواع .. إستعملتهم جميعاً:
ـ الأوتوبيس النهرى .. وهذا للأسف وللحسرة .. لم تطله أى تعديلات أو تحسينات منذ 10 سنوات على الأقل .. هى آخر مرة ركبته فيها .. فوجدت بيوت العنكبوت فى أركانه وتحت مقاعده ظاهرة للجميع، ولم أستطع أن أستمتع بمشهد النيل من خلال النافذة، لأن الضباب الناتج عن الرطوبة المنبعثة من الماء، لم يمسحها أحد منذ سنوات، فإلتصقت بالزجاج وصارت جزءً لا يتجزء منه (يغلوش) على الرؤية ... علماً بأن سعر التذكرة أصبح حوالى جنيه أو 2 جنيه (لا أتذكر) .. بينما أذكر أنى دفعت آخر مرة من 10 سنوات حوالى 5 قروش أو 10 قروش فقط!!! ... فإلى أين يذهب الفارق؟؟؟؟؟؟؟؟ وأين عمال النظافة؟؟؟؟؟؟؟
قارنت بينه وبين نفس الأوتوبيس فى نهر السين فى باريس .. وهو بالمناسبة ... نفس الأوتوبيس وحتى نفس الماركة ..
وهالنى الفارق.

ـ الثانى هو الأوتوبيس الفاخر .. وهذا هو أحدث مبتكرات الحكومة المصرية .. عبارة عن أتوبيس (بالنفر) تماماً كالميكروباص السابق وصفه .. من حيث عدم وجود محطات ولا يحزنون .. أو على الأقل لم ألاحظها .. الفارق انه مكيف، وتذكرته ثمنها 2 جنيه .. وطبعاً بما إنه ضخم جداً يعيق المرور فى شوارع القاهرة المزدحمة، وبما إنه بـ 2 جنيه ومالوش محطات وبيمشى ببطء كى يأخذ كل من ينادوا عليه فى الطريق، فلا أحد يستخدمه تقريباً ودائماً خالى. مشوار بالأوتوبيس العادى يستغرق 15 دقيقة .. أما بهذا الديناصور المكيف المتجول فى شوارع القاهرة، فقد إستغرق ساعة أو ساعة ونصف .. .. وأهى فُسحةفليحيا رجال التخطيط فى بلدنا.

ـ المينى باص .. كان يا ماكان، فى سالف العصر والأوان .. أيام ما أنزلوه لشوارع القاهرة من كام سنة .. فقط للجلوس، وإن أكتملت المقاعد، لا يقف به السائق إلا إذا طلب أحد الركاب النزول .. أما الآن، فوجدته فى حالة تقطع القلب حقيقى .. الناس تكتظ داخله كالسردين فى العلبة، والسيارة تكاد تميل على جانبها، والموتور صوته يصرخ ويكاد ينطق ويقول الرحمـــــــــــة.
ـ وأخيراً .. حبيبى وحبيب الملايين الأوتوبيس أبو ربع جنيه (فيه منه بنص جنيه) .. سبته لما كان بشلن والله، وحضرته لما خلوا شوية منه بربع جنيه، وكان حديث الساعة أيامها .. لقيته هو هو .. بشحمه ولحمه .. اقصد بشحمه وصاجه .. لذيذ ومنعش ولابديل عنه .. يخترعوا وسائل جديدة، يبتكروا مواصلات جديدة .. مفيش فايدة .. يبقى هو الملك.
ركبته ولم يكن لى هدف محدد، فقط أردت ركوبه .. فركبته، ويمر بائع الكبريت .. ويبدأ فى التجول بين أجساد الركاب المتلاصقة، وبصوته الجهورى، يمدح فى بضاعته ويعلن عنها ويروج لها، كأفضل خبير إعلامى عالمى .. بدأ بسعر جنيه للعلبة الكبيرة، وبدأ يتراجع فى السعر ويخفض فى الثمن بعدما أشفق على حالة الركاب المادية (حسبما كان يصفهم)، فيعلن بدايةً عن العلبتين بمية وخمسين صاغ، ثم يقشعر بدنه لفقر الركاب، فيمنحهم تخفيضاً آخراً، ليبيعهم الثلاثة بمية وخمسين .. وحيث انه لا فائدة فيهم، والأنيميا بدأت تصيبه منهم ومن فقرهم (حسبما قال) .. فيقدم عرضه الأخير .. لا بجنيه ولا بنص ولا بربع حتى .. الخمسة بجنيه وأمره لله وعوضه على الله .. ودائماً .. الوصف منقول عنه مباشرة دون تصرف .... فعلاً متعة.
والأمتع .. نزول الناس من الأتوبيس، لا أحد يريد الإنتظار حتى يقف، ولا السواق نفسه مستعد لأن ينتظرهم ..
الكل ينط من الأوتوبيس ... وأنا كمان!
(:

يتبع
..

3ـ الخبطة الثانية



يوليو 2003


الخبطة الثانية
أمتع لحظة يشعر بها كل مسافر، هى لحظة مروره من باب الخروج من المطار إلى الخارج .. كنت أمشى مسرعاً وكأننى أجرى من شدة اللهفة لمقابلة أهلى وللسير فى شوارع القاهرة.
كان بإنتظارى أخى الأصغر وزوج أختى وطفليها الصغيرين.
بعد السلامات والعناقات بيننا .. ركبنا السيارة متجهين للمنزل.
وأول ما لفت نظرى .. هو بالطبع طريقة قيادة السيارات فى الطريق.
فعلى الرغم من أن السائق الذى كان يقود سيارتنا .. هو سائق محترف، ومفترض فيه العلم التام بقوانين المرور .. إلا أننى كنت أمسك بظهر المقعد الذى أمامى وأدوس بقدمى فى الهواء كأننى أفرمل .. ولم أستطع التركيز فيما يقولونه لى .. من شدة تركيزى فى أسلوب القيادة ...
كنا فى طريق العروبة .. وتحديداً عند عمارات العروبة .. وإذا بى أفاجأ .. بحوار بصوت هامس بين زوج أختى الجالس فى الأمام وسائق السيارة .. فيكسر السائق يمين بسرعة شديدة .. ويركن، ويسلم علينا ويمشى .. ليقودها أخى.
كدت أموت رعباً من طريقة ركن السيارة فى طريق العروبة المزدحم والسريع، فلم يستخدم السائق الإشارة الضوئية للتنبيه عن عبوره من أقصى يسار الطريق إلى أقصى يمينه، ولم يستخدم الإشارة للتنبيه عن وقوف السيارة، ولا أى شئ .. وكأن الطريق ملكه هوفقط .. ناهيكم .. عن أنه ليس الوحيد الذى فعل ذلك، فقد تكرر المشهد عدة مرات أمامى من سيارات أخرى.
ولم يكن أخى بأفضل من السائق .. بل ألعن .. فالسرعة التى كان يسير بها وطريقة إختراقه لطوابير السيارات التى أمامه .. جعلتنى فى حالة يرثى لها تماماً.
تذكرت نفسى وطريقة قيادتى للسيارات من حوالى 10 سنوات فى القاهرة .. وقلت فى نفسى: إيـــــــــه ... أيام.
لكنى عدت لأقول: ولكن ألم يحن ميعاد التغيير؟ كيف تسير السيارات فى إحدى أكثر المدن إزدحاماً فى العالم (الثالثة تحديداً، بعد دلهى ونيو مكسيكو) بدون نظام؟ كيف أن (البركة) هى التى مازالت تتحكم فى مرورنا؟ كيف أنه حتى الآن، لا تُحترم الخطوط الفاصلة للحارات فى الشوارع؟
عن هذه الخطوط الفاصلة .. فُجعت وصُدمت وأصابنى الذهول بحق ودون أى مبالغة، حين إكتشفت أن لا أحد يعلم بمعناها ولا الفارق بين المتقطعة والمتصلة ولا بين الأحادية والمزدوجة .. وليت الكارثة تقف عند هنا .. بل إنى اكتشفت أن لا أحد يعرف أى شئ تقريباً عن قواعد المرور البديهية .. كل ما يعرفه المصريين، هو الجلوس على عجلة القيادة .. غير ذلك .. شكليات لا داعى لها.
قرأت بشكل يومى فى الصحف عن حوادث طريق، وتعجبت أكثر .. كيف لاتثير تلك الأخبار إهتمام أحد؟ قارنت بين ذلك وبين الدول الأوروبية، والتى يفردون فيها مساحة كبيرة لأى حادثة سيارة عادية، فى نشرات الأخبار التليفزيونية والإذاعية .. وتوضع أحياناً فى صدر النشرة .. وتلقى إهتماماً وتركيزاً كبيراً من المتلقين .. بينما عندنا .. هممم!! العدد فى الليمون .. وكبر دماغك يا هتش.

رغم تركيزى شبه التام فى الطريق .. إلا أن أبناء أختى (6 سنوات و4 سنوات) نجحا فى أن يأخذان ما تبقى من تركيز عندى وقتها .. فكم الزغزغة والعض فيما بيننا كان كافياً لسحب تركيزى من الطريق ..
لكن أيضاً .. إستوقفتنى فيهما بعض الملاحظات، والتى تأكدت لى مع الوقت.
فقد كانا يحدثانى، وأثناء كلامهما فوجئت بخروج كلمات إنجليزية مثل الألوان والأعداد وبعض الأسماء لبعض الأشياء .. فى البداية .. عند سماعى لأول كلمة، سألتهما: نعم؟ فقد ظننت أنى لم أفهم نطقهما لإحدى الكلمات، فأعادوها علي .. فأدرك انها كلمة Red .. وأطنش .. بعد أقل من دقيقتين .. وفى جملة أخرى تخرج كلمة Five .. وبرضه أطنش .. لكن التالتة تابتة .. مع الثالثة سألتهما: إنتم بتكلمونى إنجليزى ليه؟ أنا خالكم، يعنى مصرى زيكم، قولوها بالعربى ... فيكون رد الأكبر كالصاعقة حين قالت:
ـ ما أعرفش إسمها إيه بالعربى .. إحنا أخدناها كده فى ال school
لم أعرف كيف أرد .. فليس الذنب ذنبهما.
إكتفيت بترجمة تلك الكلمات لهما للعربية .. وبالطبع لم يكن صعباً عليهما معرفة المعانى لما يسمعونه من التليفزيون ومن البيت .. لكن كان واضح خلطهم للمعانى إن إستخدموا العربية .. يعنى الأحمر ممكن يقصدوا به الأزرق والخمسة يقصدوا بها السبعة وهكذا!!!!!!!!

كان إتصالى بالناس خلال الرحلة .. بفئات إجتماعية مختلفة .. لاحظت أن من الطبقة الوسطى فما أعلى .. هى غالباً، الطبقات التى تعانى من هذا المرض الخطير جداً فى رأيى .. مرض تعليم أبنائهم اللغات الأجنبية .. على حساب اللغة العربية ..
كان جيلى .. ومعظم أصدقائى من نفس الجيل، يتعلم اللغات الأجنبية فى المدارس، وأستطيع أن أثبت أننا تعلمناها أفضل بكثير مما تعلمته الأجيال اللاحقة وما تتعلمه الحالية .. ورغم ذلك .. كانت اللغة العربية هى الأساس، ولم يفقدها أى منا على الرغم من بعده أو ندرة إستخدامه لها .. ويُعلل ذلك بقوة الأساس لدينا .. أما الآن .. فلا هم قادرون على الحديث بالعربية ولا بغيرها .. لخبطة وعك وركاكة وحاجة تغيظ. يكفى أن أستمع لجملة واحدة بالانجليزية مثلاً من أى شاب صاعد واعد مفترس .. كى أعرف إنه مصرى .. من كثرة الأخطاء اللفظية .. رغم أن الموضة .. مُدرسات أجانب فى الحضانة!
ذكرتنى هذه النقطة أيضاً .. بأحد أساتذتى فى برشلونة، وهو عَلَم، له نظريات تدرس على مستوى العالم فى مجال الأنثربولوجى، يعنى مش أى واحد والسلام، وكلامه له إعتباراته وقيمته .. حين قال لنا فى إحدى محاضراته كرد على سؤال يقول:
ـ ما هو تعريف الدول المتقدمة والدول المتخلفة؟
رد قائلاً:
ـ تستطيع الإستدلال عليهم من اللغة المستخدمة فيهم. إن كانت لغتهم الأصلية .. كما هو الحال فى دول أوروبا، كلٍ يعتز بلغته ويفخر بها، ولا يتحدث داخل حدوده إلا بها، ويجبرالغير على تعلمها .... هذه هى الدول المتقدمة.
ـ والآن إذهبوا للعالم العربى .. ولاحظوا اللغة المستخدمة فى كل مقاطعة منه، وستعرفون الفارق.
كما تألمت يوم وقعت هذه الكلمات على أذنى وقع الصاعقة .. تألمت أكثر، وأنا أطوف وأشوف على رأى أم كلثوم.
فى المقابل .. ففى الطبقات الأقل من المتوسطة ـ والمتوسطة أيضاً على فكرة ـ لاحظت وجود مفردات جديدة .. لم أفهمها، ولم أحفظها حتى لصعوبة تركيباتها .. شئ على غرار (روش) .. لكن روش أنا فاهمها وعارفها من مدة، لذلك أتذكرها .. أما باقى الدرر .. فللأسف لم تعلق أى منها بأذنى لأسألكم عنها.

يتبع ..

2ـ العودة .. والخبطة الأولى


يونيو 2003

العودة

بعد خروجى لهذه الرحلة الطويلة، والتى لم تكن متوقعة فى البداية، حرصت على الإلمام بأكبر قدر من عادات وتقاليد الشعب الجديد الذى أحيى وسطه.

قارنت بين مصر وبين كل ما أرى، بين طباع الناس هنا وهناك. (وهناك تلك؛ لا تعنى بلد واحدة، بل عدة بلاد) وتذكرت دائماً مقولة وأغنية .. مقولة الإمام محمد عبده حين قال أنه وجد "فى بلاد الفرنجة مسلمين بدون إسلام"، وأغنية زكريا احمد التى يبدأ مطلعها قائلاً:"حاتجن ياريت يا إخواننا .. مارحتش لندن والا باريس). وظل كلاً منهما ملازماً لى وحتى هذه اللحظة.


غرقت فىأحلامى بأن أرى بلدى مثل ما رأيت فى كل مكان خارجها، من نظام ونظافة وسلوكيات الناس، وحرية ووعي ونضج فى التفكير ومثله فى التصرف. وكلما طالت مدة بعدى عن مصر، كلما إزداد حنينى لها، وكلما غرقت أكثر فى أحلامى تلك.

وكما عاصرت التغييرات المتتالية والسريعة وبشكل يكاد يكون يومى حيثما أقيم، تصورت أن نفس التطورات تحدث فى مصر، وإعتقدت أنها ستكون أفضل وأسرع، بحكم المخزون الثقافى والتاريخى، وبحكم حالة الإستقرار السياسى التى أقرأ عنها يومياً من خلال الصحف المصرية؛ فلا توجد حرب تأكل أكثر من نصف ميزانية الدولة، كما كانوا يقولون لنا فى الماضى، ولا الشعب يعانى الآن من الأمية بنسبة عالية كما كان منذ نصف قرن. ولا أى شئ من مسببات عرقلة التطور التى نعرف عنها.

لم تكن المرة الأولى التى أعود فيها لمصر خلال سنوات سفري، لكنها بالنسبة لى كانت الأولى، فالمرات السابقة كانت كلها لأسباب أو لمهمات أو لتأدية غرض، لكن لم يحدث أن عدت قبل هذه المرة فقط للعودة، وللجلوس مع الناس وللتجول فى الشوارع .. لأكون كما كنت سابقاً .. فى بلدى وبين أهلى، كانت المرات السابقة لا تتجاوز الأيام القليلة، أو بالأحرى الساعات، وكانت قاصرة على الغرف المغلقة والمكاتب، أما هذه فكانت زيارة طويلة نسبياً وإحتكاكاً شبه كاملاً بالبلد وبالناس.


الخبطة الأولى

لحظة وصولى للمطار الثانى (الجديد كما يطلقون عليه)، طافت الطائرة فترة لا بأس بها فى سماء القاهرة، عارضة بانوراما ساحرة لهذه المدينة بأنوارها المتلألئة ليلاً، كنت سعيداً بالمشهد، لكنى لاحظت تذمر بعض الركاب لطول مدة التحليق إنتظاراً للهبوط، واعتقدنا جميعاً أن المطار مكتظاً بالطائرات المقلعة والهابطة، وكأن كثافة الحركة فيه، هى أكثر من الكثافة فى أى مطاراً دولياً آخراً، وهذا ليس حقيقى بالطبع. فكانت الصدمة الأولى فى إدارة عملية الهبوط للمطار.

توقفت المحركات وبدأنا فى الهبوط على درجات السلم، لأجد أمامه وعلى جانبيه قوات الأمن وقد أحاطوا بالسلم وبالنازلين عليه، وفى يد بعضهم المدافع الرشاشة، ونظراتهم التى تثير الرعب فى قلوب كل الداخلين للمطار .. على الرغم من وجود اللافتة الكبيرة فى أعلى باب الدخول والمكتوب عليها: "أدخلوا مصر إن شاء الله آمنين*" وياله من تناقض!! .. فقد شعرت، كما لاحظت شعور جميع الركاب، بنوع من الرهبة أكاد أصفه بالذعر .. لمشهد هؤلاء الجنود فى إستقبالنا.

لم يكن بالطائرة أكثر من حوالى 60 أو 70 راكباً فقط، نظراً لتوقيت الرحلة، الذى واكب ميعاده قصف العراق، كما لم تكن هناك طائرات أخرى قد وصلت فى نفس الميعاد، فالمطار كان خالياً تقريباً إلا من ركاب طائرتي ومجموعة أخرى وصلت قبلنا وكانت فى إنتظار حقائبها.

أثناء عبورنا من أرض المطار إلى داخل الصالة، كان هناك عدداً يكاد يكون أكبر من عدد الركاب، من قوات الأمن والعمال منتشرين ومتناثرين فى كل مكان. كانوا ينظرون ويتفقدون كل الركاب بأعينهم بشكل فعلاً يثير الرعب رغم تصنعهم عدم الإكتراث .. ووصلنا إلى شبابيك عرض الجوازات .. تلك الأكشاك الممتدة بعرض الصالة، والمفترض أن بكل منها ضابطاً يكشف على الجواز ويختمه بختم الوصول. ولقلة عدد الواصلين؛ تصورت أن الإجراءات وخروجى من المطار سيتم فى لحظات، كما حدث معى فى نفس اليوم فى المطارين الآخرين الذان ممرت بهما فى هذه الرحلة، وكانوا فعلاً ممتلئان بالركابوليس كما هو الحال فى ميناء القاهرة الدولى!!

لكننا إضطُررنا أولاً للإنتظار ما يقرب من ثلث الساعة أو نصفها، حتى وصل أول ضابط جوازات وأخذ مكانه فى هذا الكشك وبدأ عمله.

توجهنا بعد ذلك لإنتظار الأمتعة على سير الحقائب، وياله من وقت .. أكثر من ساعة أخرى ونحن ننتظر، وقد سمعت تذمر الناس من حولى ولهم كل الحق، فبعد عناء السفر لساعات، ليس أنسب من تيسير خروجهم من المطارات، لكن يبدو أن أحداً لا يبالى بهذه النقطة عندنا.

وصل الفرج أخيراً .. أى الحقائب، وحملتها وتوجهت سريعاً إلى باب الخروج.
وهنا يجدر الإشارة والإشادة بإحدى الإيجابيات التى لم تكن موجودة قبلاً، وهى أن المطار قد وفر أخيراً تلك العربات لحمل الحقائب (أظن إسمها تروللى) مجاناً، وأذكر أنى آخر مرة منذ سنوات كان يجب علي دفع 2 جنيه للحصول على إحداها. أو الإستعانة بأحد العمال الحمالين الذين يعرضون خدماتهم بمقابل .. المهم .. وصلت للباب، وعليه أو عنده، كان يقف حوالى 10 رجال من مفتشى الحقائب، وكان أمامى مباشرةً شخصاً ما، يدفع أمامه (3) تروللى بمعاونة أحد الأشخاص، محملين عن زمرة أبيهم .. وتوقعت أننى سأقف فترة أخرى فى إنتظار أن يتم تفتيش أمتعته وحساب الجمارك له، إلا أن .. هذا الشخص الذى كان يعاونه .. ألقى التحية على رجل التفتيش، قائلاً:
ـ "
سلامو عليك يا فولان باشا .. فولان باشا بيسلم عليك .. تؤمر سعادتك بأى خدمة؟ ده أستاذ فولان حبيبنا ولسه جاى"
فيبتسم له المفتش، ويرد عليه التحية .. قائلاً:
ـ "
حمد لله على السلامة يا باشا .. مصر نورت .. أمانة تسلملى على فولان باشا أوى .. من زمان ما بنشوفهوش"
ويتبادلا التحيات والسلامات للحظات وعلى مشهد من الجميع .. عادى .. ثم يمر السيد بعرباته الثلاثة المحملة إلى خارج المطار .. ويأتى الدور علي.

يتفحصنى المفتش من فوق لتحت، ويجس بيده على الحقيبة الوحيدة التى أحملها هى والسمسونايت التى تحمل أوراقى .. ويسألنى إن كنت أحمل ما يستحق الجمركة أو ما يستحق أن أعلن عنه .. فأجيبه:
ـ "
لأ خلاص .. سبت القنابل فى حمام الطيارة قبل ما أنزل، والمطاوى رميتها من الشباك".
فيضحك .. ويقول لى: ـ "حمد لله على السلامة .. إتفضل".

وأخرج أخيراً .. إفراج

يتبع ..